الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و {مِن} الداخلة على {شجر} ابتدائية، أي آكلون أكلًا يؤخذ من شجر الزقوم، و{من} الثانية الداخلة على {زقوم} بيانية لأن الشجر هو المسمى بالزقوم.وتأنيث ضمير الشجر في قوله: {فمالئون منها البطون} لأن ضمائر الجمع لغير العاقل تأتي مؤنثة غالبًا.وأما ضمير {عليه} فإنما جاء بصيغة المذكر لأنه عائد على الأكل المستفاد من قوله: {لآكلون}، أي على ذلك الأكل بتأويل المصدر باسم المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق.والهِيم: جمع أهيم، وهو البعير الذي أصابه الهُيام بضم الهاء، وهو داء يصيب الإِبل يورثها حُمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروَى، أي شاربون من الحميم شربًا لا ينقطع فهو مستمرة آلامه.وقرأ نافع وعاصم وحمزة وأبو جعفر {شُرب} بضم الشين اسمَ مصدر شرب، وقرأ الباقون بفتح الشين وهو المصدر لشَرِب.ورويت عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صححه الحاكم، وخبر الواحد لا يزيد المتواترَ قُوة فكلتا القراءتين متواتر.والفاء في قوله: {فشاربون عليه من الحميم} عطف على {لآكلون} لإِفادة تعقيب أكل الزقوم بـ {شرب الهيم} دون فترة ولا استراحة.وإعادة {فشاربون} توكيد لفظي لنظيره، وفائدة هذا التوكيد زيادة تقرير ما في هذا الشرب من الأعجوبة وهي أنه مع كراهته يزدادون منه كما ترى الأهيم، فيزيدهم تفظيعًا لأمعائهم لإِفادة التعجيب من حالهم تعجيبًا ثانيًا بعد الأول، فإن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة أمر عجيب، وشربهم له كما تَشرَب الإِبل الهِيم في الإِكثار أمر عجيب أيضًا، فكانتا صفتين مختلفتين.هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56).اعتراض بين جمل الخطاب موجه إلى السامعين غيرهم فليس في ضمير الغيبة التفات.والإِشارة بقوله: {هذا} إلى ما ذكر من أكل الزقوم وشرب الهيم.والنُزلُ بضم النون وضم الزاي وسُكونَها ما يُقدم للضيف من طعام.وهو هنا تشبيه تهكّمي كالاستعارة التهكمية في قول عمرو بن كلثوم:
وقول أبي الشّعر الضبيّ، واسمه موسى بن سحيم: و {يوم الدين} يوم الجزاء، أي هذا جزاؤهم على أعمالهم نظير قوله آنفًا {جزاء بما كانوا يعملون} [الواقعة: 24].وجعل يوم الدين وقتًا لنزلهم مؤذن بأن ذلك الذي عبر عنه بالنزل جزاء على أعمالهم.وهذا تجريد للتشبيه التهكمي وهو قرينة على التهكم كقول عمرو بن كلثوم: (مرداةً طحونا).نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57).أعقب إبطال نفيهم البعث بالاستدلال على إمكانه وتقريب كيفية الإعادة التي أحالوها فاستدل على إمكان إعادة الخلق بأن الله خلقهم أول مرة فلا يبعد أن يعيد خلقهم، قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] لأنهم لم يكونوا ينكرون ذلك، وليس المقصود إثبات أن الله خلقهم.وهذا الكلام يجوز أن يكون من تمام ما أمر بأن يقوله لهم، ويجوز أن يكون استئنافًا مستقلًا.والخطاب على كلا الوجهين موجّه للسامعين فليس في ضمير {خلقناكم} التفات.وتقدم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوّي الحكم ردًّا على إحالتهم أن يكون الله قادرًا على إعادة خلقهم بعد فناء معظم أجسادهم حين يكونون ترابًا وعظامًا، فهذا تذكير لهم بما ذهلوا عنه بأن الله هو خلقهم أول مرة وهو الذي يعيد خلقهم ثاني مرة، فإنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلقهم لمّا لم يجروا على موجَب ذلك العلم بإحالتهم إعادة الخلق نُزلوا منزلة من يشك في أن الله خلقهم، فالمقصود بتقوّي الحكم الإِفضاء إلى ما سيفرع عنه من قوله: {أفرأيتم ما تمنون إلى قوله وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم} [الواقعة: 58 61].ونظير هذه الآية في نسج نظمها والترتيب عليها قوله تعالى: {نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلًا} في سورة الإنسان (28).وموقعها استدلال وعلة لمضمون جملة {إن الأولين والأخرين لمجموعون} [الواقعة: 49، 50] ولذلك لم تعطف.وفُرع على هذا التذكير تحضيضهم على التصديق، أي بالخلق الثاني وهو البعث فإن ذلك هو الذي لم يصدقوا به. اهـ. .قال القرطبي في الآيات السابقة: قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال}.ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظّم ذكرهم في البلاء والعذاب فقال: {مَآ أَصْحَابُ الشمال} {فِي سَمُومٍ} والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن.والمراد هنا حرّ النار ولفحها.{وَحَمِيمٍ} أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفىء به الحر فيجده حميمًا حارًّا في نهاية الحرارة والغليان.وقد مضى في (القتال) {وَسُقُواْ مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15].{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي يفزعون من السَّموم إلى الظلّ كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلًا من يَحْموم؛ أي من دخان جهنم أسود شديد السواد.عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.وكذلك اليَحْموم في اللغة: الشديد السواد وهو يَفْعول من الحَمّ ومن الشَّحْم المسودّ باحتراق النار.وقيل: هو مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم.وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود.وعن ابن عباس أيضًا: النار سوداء.وقال ابن زيد: اليَحْموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار.{لاَّ بَارِدٍ} بل حار لأنه من دخان شفير جهنم.{وَلاَ كَرِيمٍ} عذب؛ عن الضحاك.وقال سعيد بن المسيّب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم.وقيل: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي من النار يُعذَّبون بها؛ كقوله تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام.والمتَرف المنعَّم؛ عن ابن عباس وغيره.وقال السديّ: {مُتْرَفِينَ} أي مشركين.{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي يقيمون على الشرك؛ عن الحسن والضحاك وابن زيد.وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه.الشعبي: هو اليمين الغَمُوس وهي من الكبائر؛ يقال: حَنِث في يمينه أي لم يَبَرَّها ورجع فيها.وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنداد الله فذلك حِنْثهم؛ قال الله تعالى مخبرًا عنهم: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].وفي الخبر: كان يَتحنَّث في حِرَاء؛ أي يفعل ما يسقط عن نفسه الْحِنث وهو الذنب.{وَكَانُواْ يِقولونَ أَإِذَا مِتْنَا} هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له؛ فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّ الأولين} من آبائكم {والآخرين} منكم {لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يريد يوم القيامة.ومعنى الكلام القسَم ودخول اللام في قوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى؛ أي إنكم لمجموعون قسَمًا حقًا خلاف قسمكم الباطل {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} وهو شجر كريه المنظر، كريه الطّعم، وهي التي ذكرت في سورة {والصافات} [الصافات: 62].{فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي من الشجرة؛ لأن المقصود من الشجر شجرة.ويجوز أن تكون (من) الأولى زائدة، ويجوز أن يكون المفعول محذوفًا كأنه قال: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} طعامًا.وقوله: {مِّن زَقُّومٍ} صفة لشجر، والصفة إذا قدَّرت الجار زائدًا نصبت على المعنى، أو جررتَ على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفًا لم تكن الصفة إلا في موضع جر.قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر؛ لأنه يذكر ويؤنث.{مِنَ الحميم} وهو الماء المغليّ الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار.أي يورثهم حَرَّ ما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشًا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميمًا مُغْلًى.قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} قراءة نافع وعاصم وحمزة {شُرْبَ} بضم الشين.الباقون بفتحها لغتان جيدتان؛ تقول العرب: شَرِبت شُرْبًا وشَرْبًا وشِرْبًا وشُرُبًا بضمتين.قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فَعْل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة؛ فتقول: فَعْلة نحو شَرْبة وبالضم الاسم.وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشَّرْب كالأكل، والشُّرب كالذُّكْر، والشِّرْب بالكسر المشروب كالطِّحْن المطحون.والهِيم الإبل العِطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها؛ عن ابن عباس وعِكرمة وقَتادة والسُّديّ وغيرهم؛ وقال عكرمة أيضًا: هي الإبل المِراض.الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشًا شديدًا، واحدها أَهْيَم والأنثى هَيْماء.ويقال لذلك الداء الهُيَام؛ قال قيس بن الملوَّح:وقوم هِيم أيضًا أي عِطاش، وقد هاموا هُيَامًا.ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم؛ قال لَبِيد: وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل.وروي أيضًا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا ترْوى بالماء.المهدوي: ويقال لكل ما لا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء.وفي الصحاح: والهُيَام بالضم أشد العطش.والهُيَام كالجنون من العشق.والهُيَام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى.يقال: ناقة هَيْماء.والهيماء أيضًا المفازة لا ماء بها.والهَيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد لِليِنه والجمع هِيم مثل قَذَالٍ وقُذُلٍ.والهِيَام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى.
|